![]() |
الأندلس ,تاريخ دول المغرب قبل قيام دوله المرابطين |
قبيلة جدالة وأصل المرابطين
في أعماق صحراء موريتانيا، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدَّة، والجدب المقفر، والحرُّ الشديد، وحيث أناس لا يُتْقِنُون الزراعة ويعيشون على البداوة.. في هذه المناطق كانت تعيش إحدى القبائل الأمازيغية (البربرية) الكبيرة، والتي تُدْعَى قبيلة صنهاجة، كانت هذه القبائل مجوسية تعيش في الصحراء بعيدًا عن أي عمران؛ حتى إن الرجل منهم ربما يُعَمَّر دهرًا طويلاً ويموت دون أن يرى في حياته خبزًا، فضلاً عن أن يتذوَّقه، وظلُّوا هكذا حتى انتشر فيهم الإسلام في القرن الثالث الهجري.
ومع ابتعادهم في أعماق الصحراء في أقصى المغرب فقد استمروا على جهالتهم وبداوتهم فكأن لم يعرفوا الإسلام وتعاليمه وكأنه لم يدخل بلادهم، ثم اجتمعوا كلهم حول مَلِك واحد، ثم مات ملكهم وخلفه حفيده، ثم ابن حفيده الذي ثار عليه الصنهاجيون فقتلوه، واختلف أمرهم، وصاروا طوائف عديدة، ثم اجتمعوا بعد فترة أخرى حول ملك آخر كان من لمتونة (وهي قبيلة كبيرة من صنهاجة)، واسمه ابن تيفاون اللمتوني.
غير أنه لم يُعَمَّر طويلاً، فقد مات في إحدى المعارك، فخلفه صهره يحيى بن إبراهيم الجدالي، الذي كان من قبيلة جدالة (وتنطق الجيم مثل الكاف الفارسية أو الجيم القاهرية)، التي هي -أيضًا- قبيلة كبيرة من صنهاجة مثلها مثل لمتونة، فصار يحيى بن إبراهيم رئيس صنهاجة.
ومن أَعْجَبُ ما يرويه المؤرخون عن الجهل التام بتعاليم الإسلام ذلك الذي ساد الناس في هذا الزمن، أن يُخرج «أحدهم ابنه وابنته لرعي السوام، فتأتي البنت حاملاً من أخيها، فلا يُنكرون ذلك، وكان من دأبهم الإغارة بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا»[1]، وانتشر بينهم الزنا، ومصادقة الرجل للمرأة المتزوجة بعلم زوجها وحضوره[2]. وكان الرجل منهم يتزوج ما يشاء من النساء بلا عدد؛ حتى إن يحيى هذا -رئيسهم- كان متزوِّجًا من تسع نسوة، فهم لا يعرفون من الإسلام لا صلاة ولا زكاة ولا شرائع، اللهم إلا الشهادتين فحسب[3].
لقد كانت هذه الأوضاع أشد وطأةً مما نحن عليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبَّر تلك الخطوات المنظَّمة التي سار أصحابها وَفق منهج رسول الله r في بناء الدولة وإصلاح أحوال الأُمَّة.
يحيى بن إبراهيم يحمل هَمَّ المسلمين
أبو عمران الفاسي
أراد يحيى بن إبراهيم الجدالي أن يحج، وكان الحج في هذا الزمان يعني -أيضًا- رحلة في طلب العلم، فاستخلف ابنه إبراهيم وسار إلى الشرق، وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسى بن عيسى الفاسي، وهو شيخ المالكية في مدينة القيروان، وكان المذهب المالكي هو المنتشر في بلاد شمال إفريقيا وإلى عصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس آنذاك، قابل يحيى بنُ إبراهيم أبا عمران الفاسي، ذلك العالم الكبير الذي يقول عنه الحميدي: فقيه القيروان، إمام في وقته، دخل الأندلس، وله رحلة إلى المشرق وصل فيها إلى العراق، وسمع بالقيروان وبمصر وبمكة وكان مكثرًا عالمًا[4]. كما وصفه الحميري في الروض المعطار بالفقيه الإمام المشهور بالعِلْم والصلاح[5].
ونقل ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (المالكي) أنه كان من أحفظ الناس وأعلمهم؛ جمع حفظ المذهب المالكي إلى حديث النبي r، ومعرفة معانيه، وكان يقرأ القرآن بالسبع ويُجَوِّده، مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم، أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه مَنْ لم يَلْقَه، وله كتاب التعليق على المدونة، كتابٌ جليل لم يُكْمَل، وغير ذلك[6].
لا نشكُّ في أن يحيى سمع من الفقيه أبي عمران ما أدهشه وأيقظه، وعرَّفه بأن قومه يعيشون في جاهلية كبرى، ولا نشكُّ كذلك في أن يحيى –وهو الزعيم الحريص على أهله وقومه- حمل الهم الكبير لما اكتشفه من حقيقة الحال، وما هو إلا أن أخبر يحيى شيخه أبا عمران بأنه من قوم لا يعرفون شيئًا عن أمور دينهم، فعامَّة الناس لا يعرفون إلاَّ الشهادتين، وقليل من الخاصة مَنْ يُصَلُّون، وأنَّ لا علم لهم من العلوم ولا مذهب لهم من المذاهب؛ لأنهم منقطعون في الصحراء، لا يذهب إليهم إلاَّ بعض التجار الجهَّال، وأن فيهم أقوامًا يرغبون في تَعَلُّم العلم، والتفقُّه في الدين، لو وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فاختبره الفقيه حتى تأكد من حقيقة هذه الفاجعة[7].
فعرض الفقيه ذلك على طلابه فأَبَوْا، فأرسله إلى أحد فقهاء بلاد المغرب ويُدعى وجاج بن زلو اللمطي، وكان من طلابه، وكان قد تَفَقَّه وجلس للتدريس، فرحل إليه يحيى الجدالي، فأرسل معه الفقيه وجاج واحدًا من ألمع وأذكى تلاميذه وهو عبد الله بن ياسين.
المصادر
[1] الذهبي: تاريخ الإسلام، 31/82.
[2] علي الصلابي: دولة المرابطين، ص15.
[3] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب، ص124.
[4] الحميدي: جذوة المقتبس، 1/338، باختصار.
[5] الحميري: الروض المعطار، ص435.
[6] ابن فرحون: الديباج المذهب، 2/337، 338.
[7] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص122 وما بعدها.
تعليقاتكم وآرائكم تهمنا فلا تحرمنا الدعم والنصيحة