خلق الرحمة
الرحمة كمال في الطبيعة يجعل المرء يرقُّ لآلام الخَلْقِ، ويسعى لإزالتها، وهي في أفقها العالمي وامتدادها المطلق صفة للمولى تباركت أسماؤه، فهو الرحمن الرحيم، وما يُرى في الأرض من توادٍّ، وبشاشة، وتعاطف، وبرٍّ أثرٌ من رحمة الله التي أودع جزءًا منها في قلوب الخلائق، فأرقُّ الناس أفئدةً أوفرهم نصيبًا من هذه الرحمة، أمَّا غلاظ الأكباد من الجبَّارين والكازِّين[1] والمستكبرين فهم في الدرك الأسفل من النار، وفي الحديث: "إِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي"[2].
وقد كان رسول الله نموذجًا رائعًا للرحمة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
وقد لازمته الرحمة حتى في أعصب الساعات؛ وذلك لأن القلوب الكبيرة قلَّما تستجيشها دوافع القسوة، فهي إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطغان[3].
وقد أمر الإسلام بالتراحم العامِّ، وجعله من دلائل الإيمان الكامل، وحذَّر من مغبَّة[4] القسوة، قال: "لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ"[5].
وقد تأخذ الرحمة الحقَّة طابع القسوة وليست كذلك؛ كالطبيب الذي يجري بالجسم جراحة فقد يمزِّق اللحم، ويضطر إلى تهشيم العظام، وما ذلك إلاَّ رحمة بالمريض!!
وقد نبَّه الإسلام إلى أن هناك أقوامًا مخصوصين ينبغي أن يحظوا بأضعاف من الرحمة والرعاية؛ كذوي القربى، واليتامى، والمرضى، وكذلك الخدم، بل إن الإسلام حثَّ أيضًا على الرحمة بالحيوان، وهو في هذا شديد المؤاخذة لمن تقسو قلوبهم عليه، أو يستهينون بآلامه.
والإنسان -على عظيم قَدْره- قد يدخل النار على إساءة يرتكبها مع دابَّة عجماء، قال: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ[6]"[7].
كما أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب ولو بإزاء كلب، ففي الحديث: "أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا[8] رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، يُطِيفُ[9] بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ[10] لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا"[11].
إن الرحمة أثر من الجمال الإلهي الباقي في طبائع الناس يحدوهم إلى البِرِّ، ويهبُّ عليهم في الأزمات الخانقة ريحًا بليلة، ترطِّب الحياة وتنعش الصدور.
المراجع
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رجل كَزٌّ: قليل المُؤاتاةِ والخير. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة كزز 5/400.
[2] الترمذي (2411) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. والبيهقي: شعب الإيمان (4745)، وقال الألباني: ضعيف. انظر حديث رقم (6265) في ضعيف الجامع.
[3] الاضْطِغانُ: الاشتمال، والأضغان: الأحقاد، والمقصود حمل الضغائن في الصدور. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ضغن 13/255.
[4] مَغَبَّة الشيء: عاقبته. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة غبب 1/634.
[5] البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5651) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الفضائل، باب رحمته الصبيان.. (2319).
[6] خشاش الأرض: يعني من هوامِّ الأَرض وحشراتها ودوابِّها وما أَشبهها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة خشش 6/295.
[7] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ومسلم: كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (904).
[8] امرأَة بَغِيّ: أَي فاجرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة بغا 14/75.
[9] يَطيف: أي يدور حولها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طوف 9/225.
[10] دَلَعَ لسانه: أَخرجه من شدَّة العطش. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة دلع 8/90.
[11] مسلم: كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (2245) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
المصدر : موقع قصة الإسلام دكتور راغب السرجانى
إرسال تعليق
تعليقاتكم وآرائكم تهمنا فلا تحرمنا الدعم والنصيحة